فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قيل: المراد به المنافقون؛ المعنى يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين.
وقيل: نزلت في أبي لبابة، عن عِكرمة.
قال السدي: نزلت في قصة يوم أُحُد حين خاف المسلمون حتى همَّ قومٌ منهم أن يوالوا اليهود والنصارى.
وقيل: نزلت في عُبَادة بن الصّامت وعبد الله بن أُبيّ بن سَلُول؛ فتبرأ عبادة رضي الله عنه من موالاة اليهود، وتمسك بها ابن أبي وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} مبتدأ وخبره؛ وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
الثانية قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} أي يعضدهم على المسلمين {فَإنَهُ مِنْهُمْ} بيّن تعالى أن حُكمه كحُكمهم؛ وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أُبي ثم هذا الحُكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة؛ وقد قال تعالى: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار} [هود: 113] وقال تعالى في «آل عمران»: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28] وقال تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] وقد مضى القول فيه وقيل: إن معنى {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي في النُّصرة.
{وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} شرط وجوابه؛ أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم؛ فصار منهم أي من أصحابهم. اهـ.

.قال الطبري:

والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر بنصرانيّ بالشأم ولم يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة خبرٌ تثبت بمثله حجة، فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل.
فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك، وذلك قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية.
وأما قوله: {بعضهم أولياء بعض}، فإنه عنى بذلك: أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم وأن النصارى كذلك، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم معرِّفًا بذلك عباده المؤمنين: أنّ من كان لهم أو لبعضهم وليًّا، فإنما هو وليهُّم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حَرْب. فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض، ولليهوديّ والنصراني حربًا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ، ومنهم البراءة، وأبان قطع وَلايتهم.
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم. يقول: فإن من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولً أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه، ولذلك حَكَم مَنْ حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم، بأحكام نصَارَى بني إسرائيل، لموالاتهم إياهم، ورضاهم بملتهم، ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقًا.
وفي ذلك الدلالةُ الواضحة على صحة ما نقول، من أن كل من كان يدين بدينٍ فله حكم أهل ذلك الدين، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده. إلا أن يكون مسلمًا من أهل ديننا انتقل إلى ملّة غيرِها، فإنه لا يُقَرُّ على ما دان به فانتقل إليه، ولكن يقتل لردَّته عن الإسلام ومفارقته دين الحق، إلا أن يرجع قبل القَتْل إلى الدين الحق وفسادِ ما خالفه من قول من زعم: أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم، إلا أن يكون إسرائيليًّا أو منتقلا إلى دينهم من غيرهم قبل نزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نزول الفُرْقان، ممن لم يكن منهم، ممن خالف نسبُه نسبهم وجنسه جنسهم، فإنه حكمه لحكمهم مخالفٌ.
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}:
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لا يوفِّق من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين، وكان لهم ظهيًرا ونصيرًا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حَرْبٌ.
وقد بينا معنى «الظلم» في غير هذا الموضع، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته. اهـ. باختصار.

.قال أبو حيان:

{ومن يتولهم منكم فإنه منهم} قال ابن عباس: فإنه منهم في حكم الكفر، أي ومن يتولهم في الدين.
وقال غيره: ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة.
وقيل: ومن يتولهم منكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر.
وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر، وترك موالاتهم، وإنحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته.
ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مصافاة، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر.
وقد استدل بهذا ابن عباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب، وقال: من دخل في دين قوم فهو منهم.
وسئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة: فتلا هذه الآية.
وفي الحديث: «لا تراءى ناراهما» وقال عمر لأبي موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى.
وقال له أبو موسى لا قوام للصرة إلا به، فقال عمر: مات النصراني والسلام.
{إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ظاهره العموم والمعنى على الخصوص، أي: من سبق في علم الله أنه لا يهتدي.
قال ابن عطية: أو يراد التخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه.
وقال أبو العالية: الظالم من أبي أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وقال ابن إسحاق: أراد المنافقين.
وقيل: الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها.
وقال الزمخشري قريبًا من هذا، قال: يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه، ويخذلهم مقتًا لهم انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال. اهـ.

.قال ابن جزي:

{فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} تغليظ في الوعيد، فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاق العقوبة. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ} الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة؛ وقيل المراد بهم: المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه.
وقد كانوا يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك.
والأولى: أن يكون خطابًا لكل من يتصف بالإيمان أعمّ من أن يكون ظاهرًا وباطنًا أو ظاهرًا فقط، فيدخل المسلم والمنافق، ويؤيد هذا قوله: {فَتَرَى الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} والاعتبار بعموم اللفظ، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية ما يتضح به المراد.
والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء، أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة.
وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} تعليل للنهي، والمعنى: أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شيء وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شيء} [البقرة: 118] وقيل: المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها، وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة ما جاء به، وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادّين.
ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي: فإنه من جملتهم وفي عدادهم وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر، هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية.
وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تعليل للجملة التي قبلها: أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالى الكافرين. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم، وإن كان سبب وروده بعضًا كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن مولاتهما أي لا يتخذ أحد منكم أحدًا منهم وليًا بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروهم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أمانًا وأتهود معه فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانًا وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} إلخ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي» فنزلت.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي بعض اليهود أولياء لبعض منهم، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، وأوثر الإجمال لوضوح المراد بظهور أن اليهود لا يوالون النصارى كالعكس، والجملة مستأنفة تعليلًا للنهي قبلها وتأكيدًا لإيجاب اجتناب المنهي عنه أي بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون، ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة لأولياء، والظاهر هو الأول.
وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي من جملتهم، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله، وهو مخرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرًا وليس بمقصود، وقيل: المراد ومن يتولهم منكم فإنه كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودًا أو نصارى، وقيل: لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين، والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارًا مجاهرين.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم، تعليل آخر على ما قيل: يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها، وقيل: هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيهًا على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه. اهـ.